فصل: مسألة في نفي كان وأخواتها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.مسألة في نفي كان وأخواتها:

إِذَا نُفِيَتْ كَانَ وَأَخَوَاتُهَا فَهِيَ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَزَعَمَ ابْنُ الطَّرَاوَةِ أَنَّهَا إِذَا نُفِيَتْ كَانَ اسْمُهَا مُثْبَتًا وَالْخَبَرُ مَنْفِيًّا قَالَ لِأَنَّ النَّفْيَ إِنَّمَا يَتَسَلَّطُ عَلَى الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ما كان حجتهم إلا أن قالوا} فَالْقَوْلُ مُثَبَتٌ وَالْحُجَّةُ هِيَ الْمَنْفِيَّةُ وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ غَيْرُ لَازِمٍ إِذْ قَدْ قُرِئَ مَا كَانَ حُجَّتُهُمْ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَانَ وَلَكِنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ كَانَ مُلْغَاةٌ أَيْ زَائِدَةٌ تَقْدِيرُهُ مَا حُجَّتُهُمْ إِلَّا.
وَهَذَا إِنْ ساغ له هاهنا فَلَا يَسُوغُ لَهُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} فَإِنَّهُ قُرِئَ بِالرَّفْعِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هنا ملغاة.

.لفظ جَعَلَ:

وَمِنْ ذَلِكَ جَعَلَ وَهِيَ أَحَدُ الْأَفْعَالِ المشتركة التي هي أمهات أحداث وهي فعل وعمل وجعل وطفق وأنشأ وأقبل وَأَعَمُّهَا فَعَلَ يَقَعُ عَلَى الْقَوْلِ وَالْهَمِّ وَغَيْرِهِمَا {ويفعلون ما يؤمرون}.
ودونه عمل لأنه يعم النِّيَّةَ وَالْهَمَّ وَالْعَزْمَ وَالْقَوْلَ {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عملوا من عمل} أي من صلاة وصدقة وجهاد.
ولجعل أحوال:
أَحَدُهَا: بِمَعْنَى سَمَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ جَعَلُوا القرآن عضين} أَيْ سَمَّوْهُ كَذِبًا وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هم عباد الرحمن إناثا} عَلَى قَوْلٍ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأنثى}.
الثاني: بمعنى المقاربة مثل كاد وطفق لَكِنَّهَا تُفِيدُ مُلَابَسَةَ الْفِعْلِ وَالشُّرُوعَ فِيهِ تَقُولُ جَعَلَ يَقُولُ وَجَعَلَ يَفْعَلُ كَذَا إِذَا شَرَعَ فِيهِ.
الثَّالِثُ: بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَالِاخْتِرَاعِ فَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ كقوله تعالى {وجعل الظلمات والنور} أَيْ خَلَقَهُمَا.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَعْلِ وَالْخَلْقِ؟
قِيلَ: إِنَّ الْخَلْقَ فِيهِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَفِي الْجَعْلِ مَعْنَى التَّصْيِيرِ كَإِنْشَاءِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ أَوْ تَصْيِيرِ شَيْءٍ شَيْئًا أَوْ نَقْلِهِ مِنْ مَكَانٍ وَيَتَعَدَّى لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِوَاحِدٍ وَهُوَ الْمَخْلُوقُ.
وَأَيْضًا، فَالْخَلْقُ يَكُونُ عَنْ عَدَمٍ سَابِقٍ حَيْثُ لَا يتقدم مادة لا سَبَبٌ مَحْسُوسٌ وَالْجَعْلُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَوْجُودٍ مُغَايِرٍ لِلْمَجْعُولِ يَكُونُ مِنْهُ الْمَجْعُولُ أَوْ عَنْهُ كَالْمَادَّةِ وَالسَّبَبِ وَلَا يَرِدُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَفْظُ جَعَلَ فِي الْأَكْثَرِ مُرَادًا بِهِ الْخَلْقُ إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ قَبْلَهُ مَا يَكُونُ عَنْهُ أَوْ منه أو شيئا فيه محسوسا عنه يكون ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ الثَّانِيَ بِخِلَافِ خَلَقَ فَإِنَّ الْعِبَارَةَ تَقَعُ كَثِيرًا بِهِ عَمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ وُجُودَهُ وُجُودٌ مُغَايِرٌ يَكُونُ عَنْهُ هَذَا الثَّانِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وجعل الظلمات والنور} وَإِنَّمَا الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ عَنْ أَجْرَامٍ تُوجَدُ بِوُجُودِهَا وَتُعْدَمُ بِعَدَمِهَا وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرض وجعل فيها رواسي}.
وَقَالَ {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تركبون}.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ {وَجَعَلَ مِنْهَا زوجها}.
وفي سورة النساء: {وخلق منها زوجها} فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالَ الْمُتَرَادِفَيْنِ.
الرَّابِعُ: بِمَعْنَى النَّقْلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَالتَّصْيِيرِ فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ إِمَّا حِسًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} {والله جعل لكم الأرض بساطا} {فجعلهم جذاذا} {وجعلناهم أئمة} {وجعلناكم أكثر نفيرا} وَإِمَّا عَقْلًا مِثْلَ {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} {جاعل الملائكة رسلا} ونحو قوله: {اجعل هذا البلد آمنا} وقوله: {وجعلنا الليل لباسا} لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِشَيْئَيْنِ الْمَنْقُولِ وَهُوَ اللَّيْلُ وَالْمَنْقُولِ إِلَيْهِ وَهُوَ اللِّبَاسُ.
وَأَبْيَنُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا} {جعلنا عاليها سافلها} {وجعلنا نومكم سباتا}.
والمعاش في قوله: {وجعلنا النهار معاشا} اسْمُ زَمَانٍ لِكَوْنِ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَيَجُوزُ أن يكون مصدر لِمَعْنَى الْمَعِيشِ {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} وَمَعْنَاهُ صَيَّرْنَاهُ لِأَنَّ مَرْيَمَ إِنَّمَا صَارَتْ مَعَ وَلَدِهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خُلِقَ مِنْ جَسَدِهَا لا من أب فصار عِنْدَ ذَلِكَ آيَةً لِلْعَالَمِينَ وَمُحَالٌ أَنَّهُ يُرِيدُ خَلَقْنَاهُمَا لِأَنَّ مَرْيَمَ لَمْ تُخْلَقْ فِي حِينِ خَلْقِ وَلَدِهَا بَلْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ وَمُحَالٌ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِجَعْلِ الْمَوْجُودِ مَوْجُودًا فِي حَالِ بَقَائِهِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قرآنا عربيا}، فَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ عَلَى جِهَةِ الِاتِّسَاعِ أَيْ صَيَّرْنَاهُ يُقْرَأُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ لِأَنَّ غَيْرَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ عِبْرِيٌّ وَسُرْيَانِيٌّ وَلِأَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وإنه لفي زبر الأولين} {إن هذا لفي الصحف الأولى}.
وَبِهَذَا احْتَجَّ مَنْ أَجَازَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا الْمَعْنَى وَالْفَارِسِيَّةُ تُؤَدِّي الْمَعْنَى وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَكَأَنَّهُ نَقَلَ الْمَعْنَى مِنْ لَفْظِ الْقُرْآنِ فَصَيَّرَهُ عَرَبِيًّا.
وَأَخْطَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ حَيْثُ جَعَلَهُ بِالْخَلْقِ وَهُوَ مَرْدُودٌ صِنَاعَةً وَمَعْنًى أَمَّا الصِّنَاعَةُ فَلِأَنَّهُ يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ لَمْ يَتَعَدَّ إِلَّا إِلَى وَاحِدٍ وَتَعْدِيَتُهُ لِمَفْعُولَيْنِ وَإِنِ احْتَمَلَ هَذَا الْمَعْنَى لَكِنْ بِجَوَازِ إِرَادَةِ التَّسْمِيَةِ أَوِ التَّصْيِيرِ عَلَى مَا سَبَقَ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى خَلَقْنَا التِّلَاوَةَ الْعَرَبِيَّةَ فَبَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْخِلَافُ فِي حُدُوثِ مَا يَقُومُ بِأَلْسِنَتِنَا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَخَبَرُهُ فَعِنْدَنَا أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ وَهُوَ قَدِيمٌ.
وَقَالَتِ: الْقَدَرِيَّةُ إِنَّهُ صِفَةُ فِعْلٍ أَوْجَدَهُ بَعْدَ عَدَمِهِ وَأَحْدَثَهُ لِنَفْسِهِ فَصَارَ عِنْدَ حُدُوثِهِ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَظَهَرَ أَنَّ الْآيَةَ عَلَى تأويله ليس فيها تضمن لِعَقِيدَتِهِ الْبَاطِلَةِ.
وَقَالَ: الْآمِدِيُّ فِي أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ الْجَعْلُ فِيهِ بِمَعْنَى التَّسْوِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ جعلوا القرآن عضين} أَيْ يُسَمُّونَهُ كَذِبًا.
قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْجَعْلَ عَلَى بَابِهِ وَالْمُرَادُ الْقُرْآنُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ دُونَ مَدْلُولِهَا فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ إِذْنَهُ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى فِي الْقُرْآنِ» أَيْ بِالْقِرَاءَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَاعِدَةُ الْعَرَبِ فِي الْجَعْلِ أَنْ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ وَتَارَةً يَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ فَإِنْ تَعَدَّى لِوَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَأَمَّا إذا تعدى لاثنين فيجيء بمعنى الخلق كقوله تعالى {وجعلنا الليل والنهار آيتين} وَبِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا} {الذين جعلوا القرآن عضين}.
وَيَجِيءُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مريم وأمه آية} أي صيرناهما.
إذا علمت هذا فإذن ثَبَتَ أَنَّ الْجَعْلَ الْمُتَعَدِّيَ لِاثْنَيْنِ لَيْسَ نَصًّا فِي الْخَلْقِ بَلْ يَحْتَمِلُ الْخَلْقَ وَغَيْرَهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ تَعَلُّقٌ لِلْقَدَرِيَّةِ عَلَى خَلْقِ القرآن لأن الدليل لابد أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا لَا احْتِمَالَ فِيهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ عَلَى مَعْنَى جَعَلْنَا التِّلَاوَةَ عَرَبِيَّةً.
قُلْتُ: وَهَذَا يَمْنَعُ إِطْلَاقَهُ وَإِنْ جَوَّزْنَا حُدُوثَ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْتِ عَنِ السَّلَفِ بَلْ نَقُولُ الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
الْخَامِسُ: بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لله شركاء الجن} {ويجعلون لله ما يكرهون}.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عباد الرحمن إناثا} أَيِ اعْتَقَدُوهُمْ إِنَاثًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَبْلَهُ وَوَجْهُ النَّقْلِ فِيهِ هُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَيْسُوا إِنَاثًا فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ نَقَلُوهُمْ بِاعْتِقَادِهِمْ فَصَيَّرُوهُمْ فِي الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ إِنَاثًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فلا تجعلوا لله أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ لَا تُسَمُّوهَا أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ لَا تُسَمُّوهَا أَنْدَادًا وَلَا تَعْتَقِدُوهَا لِأَنَّهُمْ مَا سَمَّوْهَا حَتَّى اعْتَقَدُوهَا.
وَكَذَلِكَ: {الذين جعلوا القرآن عضين} أي سموه وجزؤوه أَجْزَاءً فَجَعَلُوا بَعْضَهُ شِعْرًا وَبَعْضَهُ سِحْرًا وَبَعْضَهُ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ} إنها بمعنى.......
وقوله: {أجعلتم سقاية الحاج} أَيِ اعْتَقَدْتُمْ هَذَا مِثْلَ هَذَا.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ في الأرض}، فَالنَّقْلُ وَالتَّصْيِيرُ رَاجِعَانِ إِلَى الْحَالِ أَيْ لَا تَجْعَلْ حَالَ هَؤُلَاءِ مِثْلَ حَالِ هَؤُلَاءِ وَلَا تَنْقِلْهَا إِلَيْهَا.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شركاء خلقوا كخلقه} أَيِ اعْتَقَدُوا لَهُ شُرَكَاءَ.
السَّادِسُ: بِمَعْنَى الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ يَكُونُ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَالْحَقُّ كَقوله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين}.
وَالْبَاطِلُ كَقَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث} الْآيَةَ.
وَبِمَعْنَى أَوْجَبَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كنت عليها} أَيْ أَوْجَبْنَا الِاسْتِقْبَالَ إِلَيْهَا.
وَكَقَوْلِهِ: {مَا جَعَلَ الله من بحيرة}، {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها} وَمَعْنَى كُنْتُ عَلَيْهَا أَيْ أَنْتَ عَلَيْهَا كَقوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} أي أأنتم.
السَّابِعُ: ذَكَرَهُ الْفَارِسِيُّ بِمَعْنَى أَلْقَى فَيَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ وَالْآخَرُ بِحَرْفِ الْجَرِّ كَمَا فِي قَوْلِكِ جَعَلْتَ مَتَاعَكَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ.
وَمِثْلُهُ قوله: {وجعل فيها رواسي}.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بعض} وبعضه بَدَلٌ مِنَ الْخَبِيثِ. وَقَوْلُهُ: {عَلَى بَعْضٍ} أَيْ فَوْقَ بَعْضٍ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} أَيْ أَلْقَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي عَلَّلَ فِيهَا الْمُرَادَ بِخَلْقِ الْجِبَالِ وَأَبَانَ إِنْعَامَهُ فَقَالَ {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تميد بكم}.

.فَائِدَةٌ:

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} قِيلَ كَيْفَ يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْجَعْلِ هُنَا مَعَ أَنَّ الْمَجْعُولَ عَنْهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَقَّقَ قَبْلَ الْجَعْلِ مَعَ صِفَةِ الْمَجْعُولِ كَقَوْلِكَ جَعَلْتُ زَيْدًا قَائِمًا فَهُوَ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ مُتَّصِفًا بِضِدِّ الْقِيَامِ وَهُنَا لَمْ يُوجَدِ الْجَعْلُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِعْمَالُ الْجَعْلِ فِيهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّيْلَ جَوْهَرٌ قَامَ بِهِ السَّوَادُ وَالنَّهَارُ جَوْهَرٌ قَامَ بِهِ النُّورُ وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ جِسْمٌ قَامَ بِهِ ضَوْءٌ وَالْأَجْسَامُ وَالْجَوَاهِرُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْأَعْرَاضِ بِالذَّاتِ وَالْعَرَبُ تُرَاعِي مِثْلَ هَذَا نَقَلَ الْفَرَّاءُ أَنَّهُمْ قَالُوا أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ فَكَسَوْتُكَ فَجَعَلُوا الْإِحْسَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْكِسْوَةِ بِدَلِيلِ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا تَقَدُّمٌ ذَاتِيٌّ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ فِي الْخَارِجِ هُوَ نَفْسُ الْكِسْوَةِ.
وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِحْسَانَ نَفْسُ الْكِسْوَةِ بَلْ مَعْنًى يَقُومُ بِالنَّفْسِ ينشأ عَنْهُ الْكِسْوَةُ.

.حَسِبَ:

يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ، وَحَيْثُ جَاءَ بعدها أن الفعل كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} {أم حسبتم أن تتركوا} وَنَظَائِرُهُ فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ وَمَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ أَنَّهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ وَالثَّانِي عِنْدَهُ مُقَدَّرٌ.
وَيَشْهَدُ لِسِيبَوَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يُسْمَعْ مِنْ كَلَامِهِمْ نُطْقٌ بِمَا ادَّعَاهُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهِ وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَهُ لَنَطَقُوا بِهِ وَلَوْ مَرَّةً.